فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}
{يوم} نصب على الظرف؛ أي يوم لا يملِكون منه خطاباً يوم يقوم الروح.
واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأوّل أنه مَلَك من الملائكة.
قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقاً بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّاً، وقامت الملائكة كلهم صفّاً، فيكون عِظَمُ خَلْقه مثل صفوفهم.
ونحو منه عن ابن مسعود؛ قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال.
وهو حِيال السماء الرابعة، يسبحُ اللَّهَ كل يوم اثنتي عشرة ألفَ تسبيحة؛ يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً، فيجيء يوم القيامة وحده صفّاً، وسائر الملائكة صَفاً.
الثاني أنه جبريل عليه السلام.
قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير.
وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نَهْراً من نور، مثلَ السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يَدْخل جبريل كل يوم فيه سحراً فيغتسل، فيزداد نوراً على نوره، وجمالاً على جماله، وعظماً على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألفَ مَلَك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفاً البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفاً لا يعودُون إليهما إلى يوم القيامة.
وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى تَرعَّدَ فرائصُه؛ يخلق الله تعالى من كل رَعدة مائة ألف مَلَك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إِلا أنت؛ وهو قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} في الكلام {وقال صواباً} يعني قول: (لا إله إلا أنت).
والثالث روى ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرُّوح في هذه الآية جندٌ من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رُؤوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام» ثم قرأ {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}، فإن هؤلاء جُند، وهؤلاء جُند.
وهذا قول أبي صالح ومجاهد.
وعلى هذا هم خَلْق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس.
الرابع أنهم أشرافِ الملائكة؛ قاله مقاتل بن حَيّان.
الخامس أنهم حَفَظَة على الملائكة؛ قاله ابن أبي نجيح.
السادس أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة.
فالمعنى ذوو الروح.
وقال العَوَفي والقُرَظيّ: هذا مما كان يكتمه ابن عباس؛ قال: الرُّوح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نَزَلَ مَلَك من السماء إلا ومعه واحد من الرُّوح.
السابع أرواح بني آدم تقوم صَفًّا، فتقوم الملائكة صفّاً، وذلك بين النفختين، قبل أن تردّ إلى الأجساد؛ قاله عَطية.
الثامن أنه القرآن؛ قاله زيد بن أسلم، وقرأ {وكذلك أوحَيْنا إِليك رُوحاً مِن أمرِنا} [الشورى: 52] و{صفًّا}: مصدر أي يقومون صُفوفاً.
والمصدر ينبيء عن الواحد والجمع، كالعدل والصوم.
ويقال ليوم العيد: يوم الصف.
وقال في موضع آخر: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] هذا يدل على الصفوف، وهذا حينَ العرض والحساب.
قال معناه القُتَبيُّ وغيره.
وقيل: يقوم الروح صفاً، والملائكة صفاً، فهم صفان.
وقيل: يقوم الكل صفاً واحدًّا.
{لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} أي لا يشفَعون {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} في الشفاعة {وَقال صَوَاباً} يعني حقًّا؛ قاله الضحاك ومجاهد.
وقال أبو صالح: لا إله إلا الله.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يَشفعون لمن قال لا إله إلا الله.
وأصل الصواب: السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة؛ كالجواب من أجاب يجيب إجابة.
وقيل: {لا يتكلمون} يعني الملائكة والرُّوح الذين قاموا صفاً، لا يتكلمون هيبة وإجلالاً {إِلا من أذِن له الرحمنُ} في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحِّدون الله تعالى ويسبحونه.
وقال الحسن: إن الرُّوح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل.
وهو معنى قوله تعالى: {وَقال صَوَاباً}.
قوله تعالى: {ذَلِكَ اليوم الحق} أي الكائن الواقع {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعاً بالعمل الصالح؛ كأنه إذا عمل خيراً ردّه إلى الله عز وجل، وإذا عمل شراً عده منه.
ويَنْظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك» وقال قتادة: {مآباً}: سبيلاً.
قوله تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً}: يخاطب كفار قريش ومشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نبعث.
والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آتٍ فهو قريب، وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يوم يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] قال معناه الكلبي وغيره.
وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنها أقرب العذابين.
قال مقاتل: هي قتلُ قريش ببدْر.
والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مَقعدَه من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخِزْي والهوان؛ ولهذا قال تعالى: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} بَيَّن وقت ذلك العذاب؛ أي أنذرناكم عذاباً قريباً في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه، وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى.
والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن؛ أي يجد لنفسه عملاً، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً.
ولما قال: {وَيَقول الكافر} علم أنه أراد بالمرء المؤمن.
وقيل: المرء ها هنا: أبيّ خلف وعُقْبة بن أبي مُعَيط.
{ويقول الكافِر} أبو جهل.
وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يَرَى في ذلك اليوم جزاء ما كَسَب.
وقال مُقاتل: نزلت قوله: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} في أبي سَلَمة بن عبد الأسَد المخزوميّ {وَيَقول الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً}: في أخيه الأسود بن عبد الأسد.
وقال الثعلبيّ: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم بأنه خُلِق من تراب، وافتخر بأنه خُلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، ف {يقول يا ليتني كنت ترابا} قال: ورأيته في بعض التفاسير للقُشَيري أبي نصر.
وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خُلِقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم.
وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مُدَّتِ الأرض مَدَّ الأدِيم، وحُشِر الدوابُّ والبهائم والوحوش، ثم يوضعُ القِصاص بين البهائم، حتى يُقْتَص للشاة الجمَّاء من الشاة القَرْناء بنطحتها، فإذا فرغ من القِصاص بينها قيل لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: {يا ليتني كُنتُ تُرَاباً}.
ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة)، مجوداً والحمد لله.
ذكر أبو جعفر النّحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سَلَمة بن شبيب، قال حدثنا عبد الرازق، قال حدثنا مَعْمر، قال أخبرني جعفر بن بَرْقان الجَزَريّ، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني تراباً، فعند ذلك {يقول الكافر يا ليتني كنتُ تُرابا}.
وقال قوم: {يا ليتني كنت ترابا}: أي لم أبعث، كما قال: {يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] وقال أبو الزّناد: إذا قُضِي بين الناس، وأُمِر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهلِ النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودُوا تراباً، فيعودن تراباً، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم {يا ليتني كنت تراباً}.
وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنو الجنّ يعودون تراباً.
وقال عمر بن عبد العزيز والزهريّ والكلبيّ ومجاهد: مؤمنو الجِنةِ حول الجنة في رَبِضٍ ورِحاب وليسوا فيها.
وهذا أصح، وقد مضى في سورة (الرحمن) بيان هذا، وأنهم مكلَّفون: يُثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الألوسي:

{يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}
قيل الروح خلق أعطم من لملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين وقيل هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرض خلقاً أعظم منه عن ابن عباس أنه إذا كالن يوم القيامة قام هو وحده صفاً والملائكة صفاً وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل- وفي رواية يأكلون الطعام- ثم قرأ {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} وقال هؤلاء جند وهؤلاء جند» وروى القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح وقيل هم أشراف الملائكة وقيل هم حفظة الملائكة وقيل ملك موكل على الأرواح قال في الاحياء الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس فقد أخرج هو عنه أيضاً أنه قال إن جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله تعالى يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك وأن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدًّا ولعله لا يصح عن الحبر وقيل القرآن وقيامه مجازعن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء.
ويوم ظرف ل {لا يملكون} و{صفاً} حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى: {والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] وقيل: {يوم يَقُومُ الروح والملائكة الالهة إلها واحدا} وجوز أن يكون ظرفاً لقوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} وقوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقال صَوَاباً} بدل من ضمير {لا يتكلمون} وهو عائد إلى أهل السموات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياءي ربوبيته عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى: {لاَّ يَمْلِكُونَ} إلخ ومؤكد له على معنى أن أهل السموات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقاً وقال ذلك المأذون له بعد الإذن في مطلق التكلم قولاً {صواباً} أي حقاً من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراماً وجوز أن يكون ضمير {لا يتكلمون} إلى الروح والملائكة والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى: {لاَّ يَمْلِكُونَ} إلخ أيضاً لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكره بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقاً وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضاً من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصديق من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالإطلاع على ما غاب عنا والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنياً عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادوا في التبسط والدلال عليه وعن ابن عباس أن ضمير {لا يتكلمون} للناس وجوز أن يكون {إلا من أذن} إلخ منصوباً على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صواباً أي حقاً هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل يجوز أن يكون قال: {صواباً} في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفاً على إذن ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضاً لكن من ضمير {يتكلمون} باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه وقيل جملة {لا يتكلمون} حال من {الروح والملائكة} أو من ضميرهم في {صفاً} والجمهور على ما تقدم وإظهار {الرحمن} في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدًّا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم للإشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز وجل.
{ذلك} إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو دجرته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى: {اليوم} الموصوف بقوله سبحانه: {الحق} أو هو الخبر و{اليوم} بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز وجل: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَئَاباً} فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإلى ربه متعلق بـ: {مآبا} قدم عليه اهتماماً ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعاً إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالايمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر {مَئَاباً} أي سبيلاً وتعلق الجار به لما فيه من معنى الافضاء والإيصال والأول أظهر وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لابد منه شاء أم لا والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الايمان والطاعة ولا ثواب بدونها وقيل لتقدم قوله تعالى: {للطاغين مَئَاباً} [النبأ: 22] فإن لهم مرجعاً لله تعالى أيضاً لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة.
{إِنَّا أنذرناكم} أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم {عَذَاباً قَرِيباً} هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل أو يقال البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فإن الظاهر أنه ظرف لمضمر هو صفة {عَذَاباً} أي عذاباً كائنا يوم إلخ وليس ذلك اليوم إلا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من {عَذَاباً} أو ظرف لقريباً وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريباً في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد.
والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل والظاهر أن المرء عام للمؤمن والكافر وما موصولة منصوبة بينظر والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بقدمت أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوة ينظر جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليباً وقرأ ابن أبي إسحاق المرء بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ ومرء على حسب الاعراب {وَيَقول الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور وقال عطاء المرء هنا الكافر لقوله تعالى: {إِنَّا أنذرناكم} وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلا أنه وضع الظاهر موضع لزيادة الذم وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهو الوجه لقوله تعالى: {فمن شاء استخذ إلى ربه مآباً} [النبأ: 39] {وَأَنَا أنذرناكم} لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضاً فلا دلالة على الاختصاص وقال ابن عباس وقتادة والحسن المراد به المؤمن قال الإمام دل عليه قول الكافر فلما كان هذا بياناً لحال الكافر وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا: {لَيْتَنِى كُنتُ ترابا} في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو {لَيْتَنِى كُنتُ ترابا} في هذا اليوم فلم أبعث وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد إن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني تراباً فيعود جميعها تراباً فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى وقيل الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون تراباً لأنه احتقره لما قال: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12] وهو بعيد عن السياق وإن كان حسناً والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لاسيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعاً لطاعة الله تعالى لا جباراً ولا متكبراً والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى. اهـ.